Thursday, August 9, 2007

عبقرية العقاد في العبقريات

يحفل التاريخ الإسلامي بالشخصيات الفريدة التي خلقت لتبقى على مر السنين، وتربت - على يدي رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- تربت لتقتدي وتبدع في تنشأة الأجيال وضرب الأمثال لا سيما في مختلف طرائق الحياة المستقيمة. لقد قص وقرأ التاريخ آلاف المرات من المعاصرين والتابعين وتمتع المستمع والقارئ بظواهر الأحداث ونقلوها للأبناء والأحفاد فكانت لهم بمثابة الهداية والدستور على الطريق المستقيم، أما وأن يسرد التاريخ من محلل نفسي خبير بالطبائع البشرية، قدير على الإلمام بمفاتيح الشخصية، ضليع في وصف المواقف ودلالتها دون الإختصار المخل أو الإطناب الممل، فعندها ستكون الهداية هدايات والدستور فهرس دساتير. إن عبقرية استنباط العبر والدروس من التاريخ لابد لها من قارئ نهم على نفس المقدار من الألمعية والذكاء، كما أنها تحتاج لعدة عوامل ربما من أهمها الأسلوب العلمي السليم في تناول الأخبار المتضاربة، والذكاء الفطري في تغليب أحد الآراء على الآخر حسب السياق مع مراعاة الظروف النفسية والتاريخية للأبطال، هذا بالإضافة إلى سبر أغوار العمق النفسي للشخوص بطريقة علمية. ولقد تآلفت جل هذه العوامل –إن لم يكن كلها – في الكاتب الفذ العملاق الأستاذ العقاد، وقد أثبت بإقتدار أنه حقا مدرسة الأدب الإسلامي من خلال كتابته للعبقريات الأسلامية.
لم تكن كتابة الأستاذ العقاد عن عبقرية أعظم العظماء سيدنا رسول الله إلا تشريفا للكاتب، ولم يحط به يراعه إلا شطرا، فالرسول محمد ص وإن كان بشرا إلا أن خلقه كان قرآنيا وأعماله في معظمها وحيا، فالمغرور هو من سولت له نفسه أن يفند مآثر هذا العظيم أو حتى وصف جوانب خلقه الكريم، فلقد أعيا معاصروه أن يصفوه إلا إجمالا بكل مكارم الأخلاق، فعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. إلا أننا لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نؤكد أنه من أهم جوانب حياة الرسول ص التى تجلت فيها عظمته - كما وصفها العقاد - أنه صلى الله عليه وسلم إصطفى إليه في بداية دعوته عظماء العرب الذين أعز بهم الله الدين، ولعل هذا يكون دالا على الوحي الرباني والدعم السماوي لهذا الرسول الكريم ولهذا الدين القيم.
لقد تناول أستاذنا الكبير العقاد جوانب شخصية الخليفة الأول لرسول الله –أبي بكر الصديق- وأمير المؤمنين –عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما، بأسلوب مجدد فريد، كما أنه أنبأ عن جدارة وإقتدار في تحليل الأحداث كما هو معهود من العملاق الكاتب. تبين لنا وكأن الكاتب عاصر الأحداث أو على الأقل دنا منها من حيث الزمان والمكان فيعطى للقارئ أعلى قدر من تعايش القصص وأكبر مقدار من المصداقية، في أسلوب سهل ممتنع يصعب على القلم وصف دلالاته، فمهما كانت الكلمة غريبة فهي لطيفة وواضحة من السياق وتعطي المعنى العام دون تكلف أو تكليف. وقد إتضحت عبقرية العقاد في أستنباط مفتاح الشخصية، فأدرك بألمعية فذة أنها كانت في الصديق متمثلة في الإعجاب بالبطولة المحمدية، فأعجب به وصادقه قبل البعثة وصدقه في الرسالة دون تردد أو تفكير وآمن بإسرائه دون شواهد أو تبرير، وكيف لا وهو يصدقه في أمر وحي السماء. فلقد كان أبو بكر الصديق مثالا للإقتداء بمحمد النبي ص فكانت خلافته امتدادا لما رسمه صاحبه حتي في إرسال البعثات وتعيين الأمراء، وكيف لا وهو أكثر صحابي لازمه منذ البعثة وعلى مدار ثلاثة وعشرين عاما. ولقد اعتبره العقاد من مدرسة المحافظين بالإصطلاح السياسي الحديث، ولقد خلافته قصيرة الأمد ولكنها غزيرة وخطيرة الأحداث، والكاتب محق كل الحق في هذا الإعتبار. أنفذ جيش أسامة كما أمر الرسول الكريم ص، وحارب المرتدين بأسرع حسم كما حارب الرسول المنافقين وطرد المرجفين، وأرسل البعوث في كل تخوم الدولة الإسلامية الناشئة كي يرهب المقلقلين والمترددين كما أرهب الرسول أعداء الله المتربصين.
أما مفتاح شخصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد تجلت في شخصية الجندي القويم الذي لا يسير إلا في الطريق المستقيم القادر على سحق أي عقبات في هذا الطريق ليحقق العدل، والرحمة دون هيبة لتوابع هذه العقبات. فقد تجلت شخصية عمر منذ نوى الدخول في الإسلام عندما قرأ سورة طه من صحيفة أخته فاطمة، حيث قرعت الآيات تلابيب فؤاده وعرف أنه حقا وحي من رب العالمين وليس بكلام بشر، هنالك فقط آمن بالنبي محمد بعد أن رأى برهان عقله وقلبه، فكان مثالا للمؤمن على بصيرة والمجتهد لمعرفة الحقيقة. أما خلافته التي امتدت زهاء عشر سنين فقد كانت مثالا لمدرسة المجددين بالتعبير الحديث، حيث الإجتهاد والتجديد كانا لازمين بعدما استقرت الدولة واتسعت رقعتها، مستعينا بآراء ومشورة الصحابة الكبار الذين شهدوا بدرا والذين أبقاهم جواره في المدينة لإصلاح أمور المسلمين. ولقد استطاع العقاد بعبقرية نافذة أن يفند صفات عمر رضي الله عنه والتي ظهرت لبعض المستشرقين وكأنها متناقضة وللآخرين وكأنها على نسق فكري واحد يتسم بضيق الأفق، فقد كانت شخصية عمر تركيبة من صفات جمعت فيها العدل والرحمة والفطنة والغيرة والإيمان، كل بمقدار يساعد بعضه بعضا لرسم هدف واحد هو العدالة الإجتماعية واستقرار الدولة الإسلامية.
عصر الفتن:
قد كانت خلافة الصديق والفاروق أمثل ما تكون كما رسمها الحبيب عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وكان عصر عثمان وعلي بداية لنهاية الخلافة كما تنبأها النبي الكريم (الخلافة ثلاثون عاما يكون بعدها ملكا)، وأصبح يتسم ذلك العصر بالفتن التي بدأت بعهد عثمان وبلغت أوجها في عهد علي، فتن كقطع الليل المظلم متمثلة في:
1. الفتنة الكبرى بين الخليفة الثالث عثمان ونائبه ومشيره الأول علي والذي كان باعثها الأساسي مروان بن الحكم (كاتم سر عثمان) الذي بث في عثمان رواسب العصبية القبلية لصالح بني أمية ونبذ كل ما هو قريشي وإن كان علي كرم الله وجهه، ولم يثبت على علي أبدأ أنه أظهر حقدا ولا ضغينه أو يمنع مشوره صادقه لأي من الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، كما إنه لم يكن مضطرا ليثبت ذلك فهو سريرته كعلانيته.
2. نزوح كبار الصحابة (الذين كان يستبقيهم الخليفة الأول والثاني جوارهما للمشورة) خارج المدينة لتبوأ الإمارات في عهد عثمان، وخلافهم مع علي الذي كان يرى مثل ما رأى أبي بكر وعمر وهو البقاء في المدينة للشورى، فقد تطلع طلحة والزبير لأمارتي العراق واليمن مستندين على دعم من أم المؤمنين عائشة وإنتهى الخلاف بمعركة الجمل وللأسف مقتل الصحابيين الجليلين.
3. الخلاف الذي دار بين علي ومعاوية، علي يرى عزل معاوية من إمارته حتميا منذ أن كان علي وزيرا لعثمان إلى أن تبوأ الخلافة بإجماع الصحابة والأمصار، أما معاوية فمستندا إلى منعة أمارته وولائها إياه فقد رفض البيعة لعلي وأنكر كفؤه للخلافة وطلب وألح في الطلب في أمر دم قريبه عثمان ليؤلب عليه الرعية خاصة من بني أمية إلى أن حدثت فتنة التحكيم.
4. كثرة الشاكين من القرشيين وغيرهم من سياسة أمير المؤمنين على لشظف العيش في الحجاز على الرغم من رغد العيش في أطراف الدولة الإسلامية. تكرار طلبهم لثأر عثمان وما كان ليأخده في أول خلافته لقلة الموالين حتى من الأهل خاصة بعد أن تحمل الآلاف مسئولية هذا الدم، مما جعله يتخذ من الكوفة مركزا للخلافة بدلا من المدينة.
5. الفتنة في صفوف جيش علي بين محب مغالي يؤلهه (الروافض) وقد أمر بإحراقهم وبين منكر لإستسلامه للتحكيم معتبرين ذلك كفر بين (الخوارج) وقد أمل الأمام في إستتابتهم، ثم خرج منهم عبد الرحمن بن ملجم وقتل أمير المؤمنين. أما المقاتلين العدول فقد أضناهم كثرة قتال المسلمين لبعضهم وشكوا في ذلك بعد إتفاق علي ومعاوية على الهدنة لحقن دماء المسلمين، ولكن متى وقد فقد كثير من الأخوان بلا ذنب!!!.
تفصيل لفترتي الفتنة
تجلت شخصية ذي النورين عثمان بن عفان بالسخاء والأريحية، فقد تقلد الخلافة بالشورى من الستة الصحابة الكبار الذين مات عنهم رسول الله ص وهو راض (عثمان، علي، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقاص، الزبير وطلحة)، وتم مبايعتة بعد مدولات تمت بين عبد الرحمن بن عوف وعثمان تارة وبين الأول وعلي تارة أخرى دون أن يعلم أحد تفاصيل هذه المداولات، وقد كان عثمان شيخا في السبعينات وعلي لم يتجاوز الأربعينات فكانت الأرجحية للأول. تميز عهد عثمان بن عفان بالتحول السياسي في الإطار العام للدولة الإسلامية:-
1. بعد أن كان الخليفة الأول والثاني يستبقي كبار الصحابة البدريين بالمدينة للإستعانة بهم في الشوري ولإبعادهم عن لوثة الدنيا ونعيمها حسب توصيات الصديق والتي أخذ بها الفاروق، بدأ هؤلاء الصحابة بالحركة خارج المدينة وتبوأ الإمارات والعيش في بحبوحة الترف ورفاهية الدور، وبدأ نظر الكل يرنو من كرسي الخلافة.
2. إعتمد عثمان على أهل الثقة من بني أمية في التعيين خاصة على كاتم سره وكبير ياورانه مروان بن الحكم الذي تمتع بأكبر قدر من العصبية القبلية وكان مثالا لأشد نوع من فساد البطانة عرفه التاريخ.
3. قويت أمارة الشام لمعاوية بن أبي سفيان وضرب المثل في الترف وسلطنة الأمارة، وصار يهيأ الطريق لتوريث إبنه زيد وبدأ يحدث إنفصاما بين الخلافة الدينية في المدينة المؤسسة على الشورى والدولة الدنيوية المعتمدة على التوريث، أو بالمعنى الحديث علمانية الدولة وفصل الدين عن السياسة.
4. تكرر ضجر الرعية -لاسيما في الإمارات- من ولاتهم ومن حياة التقشف بالرغم من ترف الولاة وإستأثارهم بموارد البلاد، وبذلك فقد المثل الأعلى للتشقف في العيش والذي كان يظهر واضحا في الخلفاء الأوائل. وعد عثمان بالتغيير وراوغ مروان في التنفيذ إلى أن جاءت الوفود للمدينة من مصر والكوفة والبصرة وتم حصار الخليفة في داره. ولقد كان علي -رضي الله عنه- في غير مرة أداة الخليفة في تهدأة الرعية وإمتصاص غضبهم ووعدهم بالتغيير. وأخيرا تمت جريمة الإغتيال الدهماء لشيخ جاوز الثمانين على أيدي الغوغاء دون أي مقاومة من شهود العيان.
بويع علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- بعد رفضه للخلافة أكثر من مرة ورفضها أكثر الصحابة الكبار، ولقد كان أرث الخلافة ثقيلا. تميز علي بمفتاح شخصية الفروسية بما فيها من الشهامة والإعتزاز بالنفس ورفض الضيم، إذا دوعي للمنازلة تقدم بدون تردد زودا عن حياض الدين ولكنه لا يبتدأ أبدا بالإعتداء. كان أرثه من الخلافة مضنيا للأسباب الآتية:-
1. شبه انفصال الإمارات حول الدولة المركزية خاصة أمارة الشام بمعاوية الذي أخذ يكرر الطلب في القصاص لعثمان والذي لم يعر هذا الأمر أهمية بعد أن آل الحكم إليه!!
2. تأليب الوفود على الخليفة – والذي أصبح ليس له من الأمر شئ – مطالبين بتغيير الأمراء لأسباب ظاهرة من أهمها تحقيق العدالة الإجتماعية والمساواة في العطية بين الحكام والمحكومين.
3. إستتبت في هذه الفترة ظاهرة الإنفصام النكد (التي وصفها المفكر الإسلامي سيد قطب) بين الدين متمثلا في الخلافة الدينية في المدينة وبين باقي أجزاء الدولة والتي أصبحت ملكا أو سلطانا يورث ويعزز أركانه بالعسكر وولائهم بجزيل العطايا، ولا يأمن للثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكومين كما كان في عهد الخليفتين الأول والثاني رضي الله عنهما.
تقييم العقاد العام لسياسة علي بن أبي طالب
كان في سياسته فهما وعلما ولكنه لم تكن فيها الحيلة العملية التي هي أقرب للغريزة منها إلى الذكاء.
فكان نعم الخليفة لو صادف أوان الخلافة، ونعم الملك لو جاء بعد توطيد الملك.
ولكنه لم يأت لخلافة بالإجماع ولا إلى ملك موطد، فحمل النقيضين.
أخفق حيث ينبغي أن يخطأ أو حيث يعيبه أن ينجح، وتلك آية الشهيد.
لقد قام العقاد بإستفاضة التحليل النفسي لجميع شخوص الخلافة الإسلامية وما بعدها، ولم يترك موقفا أو أزمة إلا وتناولها بشفافية تؤكد كمال شخصيته الإسلامية وعدول مذهبه الفكري، هذا وقد تبنى فكرة أنه ما كان أن يحدث أفضل مما كان، بمعنى أن جميع الأطراف إجتهدوا لصلاح الأمر وإخلتلفوا بين مصيب وله أجران ومخطأ وله أجر، حتى في الفتن الدهماء بين الأئمة الأعلام مؤكدا أنه وكأن الرسول الكريم ص قد تنبأ ما سوف يحدث في الأمة الإسلامية بعد إنتشار الدين وكمون الجهاد الإسلامي ليصبح هم المسلم نفسه بعد أن كان همه الدعوة. أما نحن فنرى أنه لم يخالف أحد الأئمة الأربعة خلافا أدى إلى قتال إلا وكان له هوى دنيوي، أما الخلفاء فلم يكن لهم غرض سوى الدين وما عاداهم إلا كل معتد منافق أثيم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن دراسة هذا التحليل التاريخي الغزير لابد من تلقينه لأبناء المسلمين بنفس الأسلوب الذي فهمه مثل هؤلاء الكتاب المخلصين ليكون باعثا في نفوس الأجيال القادمة للمبادئ السامية وليكون ردءا لهم من الأفكار الهدامة والإيحاءات السامة التي تفشت في الأمة الإسلامية من كتابات المستشرقين والمتغربين. إننا لا نرى في جيل الكتاب المعاصر إلا الندر القليل الذي وهب حياته للرد على هذه الحملات الشعواء وكتابة التاريخ بمنهجية سليمة تحمي العقول من سموم المعاصرين وتغذيها بأكسير الأجداد الأوائل كي نعيد أمجادهم ونرفع شأننا وشأنهم.