Friday, October 15, 2010

رسالة للمغتابين

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخ الفاضل .......
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين.. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.. وما قل وكفى خير مما كثر وألهى.. وإن ما تعدون لآت وما أنتم بمعجزين.. ثم أما بعد..

يقول الحق سبحانه وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (الحجرات 6)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (آل عمران 118)

ويقول الرسول الأمين صلوات الله عليه وأفضل التسليم (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره قالو: وإن كانت فيه؟ قال: فإن كانت فيه فقد إغتبته وإن لم تكن فيه فقد بهته.. كما قال صلى الله عليه وسلم: اذكروا محاسن موتاكم)..

فقد ساءني أشدُ السوء ما قلته في مجلسك الأخير (وبحضرة الأخوة الأفاضل.....).. فذكرت بالتواريخ ما ذكرت وقلت عن إخوانك الغائبين ما قلت، فأما ما زاد الكيل وأصابني بالغثيان هذا الذي وصفته في إخوانك النافقين – رحمة الله عليهم أجمعين ولا نقول فيهم إلا خيراً.

عفا الله عنك وعنا !! ما كان ينبغي لي أن أعيد ما قلتَ.. ولكن هنالك الشهود، والله خير الشاهدين.. قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ .............(الأنعام 19)

فذكر الغائبين والميتين ليس من شيم النبلاء والأقوياء، علاوة على أنه ليس من أخلاق المتدينين، ولو حتى بأي دين..

أما أن تصب جام غضبك وحقدك على تخصص ما وقد إعترفت أنت شخصيا بفضله عليك وعلى غيرك!! فهذا وشأنك، والله يهدينا وإياك إلى سبيل الرشاد.. ولن أدافع عن نفسي ولا عن تخصصي.. (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (البقرة 111)، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (الحج 38) وكما قال فضيلة الشيخ الشعراوي رحمه الله: لا تعبأ بمن يهاجموك فإن الناس لا تلقى بالحجارة إلا على الشجر المثمر ليأكلوا من ثمره إذا أثمر وينعه..

الأخ الفاضل..
تعلم جيداً أن الشفافية والمواجهة هي طبيعتي دوماً، سواءً مع الكبير أو الصغير مهما كلفني ذلك من مشقة أو عناء أو حتى فقدان الحظ عند الرؤساء.. فليس من طبيعتي أبدا المناورة أو الدهاء أو التملق لكسب المغانم أو العرض الفاني.. وهذا من المعلوم عني بمكان ليس لك وحدك ولكن لجميع الزملاء.. (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (يوسف 108)

ويعلم الله أنني لم أكتب هذه الكلمات إلا لإبراء ذمتي خالصة من هذا البهتان والإفتراء أمام الله العلي القدير (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (الأعراف 164).
فإن الدين النصيحة.. قالوا: لمن يارسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولسائر المسلمين.. والنصح - كما تعلم – للمنصوح في السر فضيلة، أما أن تذكره علانيةً – لا سيما في غياب المنصوح - فهو أبعد ما يكون عن النصيحة.. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (الزخرف 44)

وأخيرا اللهَ أسأل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا إجتنابه.. ونعوذ بالله العظيم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.. كما أعوذ به من مجالس المنافقين والأفاكين، ومن مصاحبة النمامين والمغتابين، وأستعين به من بأس الحاقدين وغل الحاسدين.. إنه هو القادر على ذلك، نعم المولى ونعم النصير.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (النحل 82) ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (الأنبياء 106)، ... بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (الأحقاف 35)

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) العصر كاملة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

حكاية في الأمانة

قال ابن جرير الطبرى: كنت في مكة في موسم الحج فرأيت رجلا من خرسان ينادي ويقول: يا معشر الحجاج، يا أهل مكة من الحاضر والبادي، فقدت كيسا فيه ألف دينار، فمن رده إلى جزاه الله خيرا وأعتقه من النار، وله الأجر والثواب يوم الحساب. فقام إليه شيخ كبير من أهل مكة فقال له: يا خرساني بلدنا حالتها شديدة، وأيام الحج معدودة، ومواسمه محدودة، وأبواب الكسب مسدودة، فلعل هذا المال يقع في يد مؤمن فقير وشيخ كبير، يطمع في عهد عليك، لو رد المال إليك، تمنحه شيئا شيئا يسيرا، ومالا حلالا. قال الخرساني : فما مقدار حلوانه ؟ كم يريد؟ قال الشيخ الكبير: يريد العشر مائة دينار عشر الألف، فلم يرض الخرسانى وقال: لا أفعل ولكنى أفوض أمره إلى الله، وأشكوه إليه يوم نلقاه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال ابن جرير الطبرى: فوقع في نفسي أن الشيخ الكبير رجل فقير، وقد وجد كيس الدنانير ويطمع في جزء يسير، فتبعته حتى عاد إلى منزله، فكان كما ظننت، سمعته ينادى على امرأته ويقول: يا لبابة، فقالت له: لبيك أبا غياث. قال: وجدت صاحب الدنانير ينادي عليه، ولا يريد أن يجعل لواجده شيئا، فقلت له: أعطنا منه مائة دينار، فأبى وفوض أمره إلى الله، ماذا أفعل يا لبابة؟ لا بد لى من رده، إنى أخاف ربى، أخاف أن يضاعف ذنبي. فقالت له زوجته: يا رجل نحن نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة، ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي، وأنت تاسعنا، لا شاة لنا ولا مرعى، خذ المال كله، أشبعنا منه فإننا جوعي، واكسنا به فأنت بحالنا أوعى، ولعل الله عز وجل يغنيك بعد ذلك، فتعطيه المال بعد إطعامك لعيالك، أو يقضي الله دينك يوم يكون الملك للمالك. فقال لها يا لبابة: أآكل حراما بعد ست وثمانين عاما بلغها عمري، وأحرق أحشائي بالنار بعد أن صبرت على فقرى، وأستوجب غضب الجبار، وأنا قريب من قبرى، لا والله لا أفعل.

قال ابن جرير الطبري: فانصرفت وأنا في عجب من أمره هو وزوجته، فلما أصبحنا في ساعة من ساعات من النهار، سمعت صاحب الدنانير ينادى يقول: يا أهل مكة، يا معاشر الحجاج، يا وفد الله من الحاضر والبادي، من وجد كيسا فيه ألف دينار، فليرده إلى وله الأجر والثواب عند الله. فقام إليه الشيخ الكبير، وقال: يا خرساني قد قلت لك بالأمس ونصحتك، وبلدنا والله قليلة الزرع والضرع، فجد على من وجد المال بشئ حتى لا يخالف الشرع، وقد قلت لك أن تدفع لمن وجده مائة دينار فأبيت، فإن وقع مالك في يد رجل يخاف الله عز وجل، فهلا أعطيتهم عشرة دنانير فقط بدلا من مائة، يكون لهم فها ستر وصيانة، وكفاف وأمانة، فقال له الخرساني: لا أفعل، وأحتسب مالي عند الله، وأشكوه إليه يوم نلقاه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال ابن جرير الطبري: ثم افترق الناس وذهبوا، فلما أصبحنا في ساعة من ساعات من النهار، سمعت صاحب الدنانير ينادي ذلك النداء بعينه ويقول: يا معاشر الحجاج، يا وفد الله من الحاضر والبادي، من وجد كيسا فيه ألف دينار فرده على له الأجر والثواب عند الله. فقام إليه الشيخ الكبير فقال له: يا خرساني، قلت لك أول أمس امنح من وجده مائة دينار فأبيت، ثم عشرة فأبيت، فهلا منحت من وجده دينارا واحدا، يشتري بنصفه إربة يطلبها، وبالنصف الأخر شاة يحلبها، فيسقى الناس ويكتسب، ويطعم أولاده ويحتسب. قال الخرسانى: لا أفعل ولكن أحيله على الله وأشكوه لربه يوم نلقاه، وحسبنا الله ونعم الوكيل. فجذبه الشيخ الكبير، وقال له: تعال يا هذا وخذ دنانيرك ودعني أنام الليل، فلم يهنأ لي بال منذ أن وجدت هذا المال.

يقول ابن جرير: فذهب مع صاحب الدنانير، وتبعتهما، حتى دخل الشيخ منزله، فنبش الأرض وأخرج الدنانير وقال: خذ مالك، وأسأل الله أن يعفوي عنى، ويرزقني من فضله. فأخذها الخرسانى وأراد الخروج، فلما بلغ باب الدار، قال: يا شيخ مات أبي رحمه الله وترك لى ثلاثة آلاف دينار، وقال لي: أخرج ثلثها ففرقه على أحق الناس عندك ، فربطتها في هذا الكيس حتى أنفقه على من يستحق، والله ما رأيت منذ خرجت من خرسان إلى ههنا رجلا أولى بها منك، فخذه بارك الله لك فيه، وجزاك خيرا على أمانتك، وصبرك على فقرك، ثم ذهب وترك المال. فقام الشيخ الكبير يبكى ويدعو الله ويقول: رحم الله صاحب المال في قبره، وبارك الله في ولده.

قال ابن جرير: فوليت خلف الخراساني فلحقني أبو غياث وردني، فقال لي إجلس فقد رأيتك تتبعني في أول يوم وعرفت خبرنا بالأمس واليوم، سمعت أحمد بن يونس اليربوعي يقول: سمعت مالكا يقول: سمعت نافعا يقول: عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعمر وعلي رضي الله عنهما، إذا أتاكما الله بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس، فاقبلاها ولا ترداها، فترداها على الله عز وجل، وهذه هدية من الله والهدية لمن حضر. ثم قال: يا لبابة، يا فلانة، يا فلانة، وصاح ببناته والأختين وزوجته وأمها، وقعد وأقعدني، فصرنا عشرة، فحل الكيس وقال: أبسطوا حجوركم فبسطت حجري، وما كان لهن قميص له حجر يبسطونه، فمدوا أيديهم، وأقبل يعد دينارا دينارا، حتى إذا بلغ العاشر إلي، قال: ولك دينار، حتى فرغ من الكيس، وكان فيه ألف دينار، فأعطانى مائة دينار.

يقول ابن جرير الطبرى: فدخل قلبي من سرور غناهم أشد من فرحى بالمائة دينار، فلما أردت الخروج قال لي: يا فتى إنك لمبارك، وما رأيت هذا المال قط ولا أملته، وإني لأنصحك أنه حلال فاحتفظ به، واعلم أني كنت أقوم فأصلي الفجر في هذا القميص البالى، ثم أخلعه حتى تصلى بناتي واحدة واحدة، ثم أخرج للعمل إلى ما بين الظهر والعصر، ثم أعود في آخر النهار بما فتح الله عز وجل على من تمر وكسيرات خبز، ثم أخلع ثيابى لبناتى فيصلين فيه الظهر والعصر، وهكذا فى المغرب والعشاء الآخرة، وما كنا نتصور أن نرى هذه الدنانير، فنفعهن الله بما أخذن، ونفعني وإياك بما أخذنا، ورحم صاحب المال في قبره، وأضعف الثواب لولده، وشكر الله له.

قال ابن جرير: فودعته، وأخذت مائة دينار، كتبت العلم بها سنتين، أتقوت بها وأشتري منها الورق وأسافر وأعطي الأجرة، وبعد ستة عشر عاما ذهبت إلى مكة، وسألت عن الشيخ، فقيل إنه مات بعد ذلك بشهور، وماتت زوجته وأمها والأختان، ولم يبق إلا البنات، فسألت عنهن فوجدتهن قد تزوجن بملوك وأمراء، وذلك لما انتشر خبر صلاح والدهن فى الآفاق، فكنت أنزل على أزواجهن، فيأنسون بي ويكرموني حتى توفاهن الله، فبارك الله لهم فيما صاروا إليه.

يقول تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (الطلاق 2-3)