عندما كثرت الأحاديث المروية عن رسول الله ص بعد وفاة الخلفاء الأربعة الراشدين خاصة الخليفة العادل عمر بن الخطاب الذي كان يتصدى وينقح ما يروى من الحديث ما إستطاع تارة بدرته وتارة بالتأكد من الرواة الثقات، كان لزاما على علماء الحديث التابعين من إستحداث علم الجرح والتعديل لمراجع الحديث (الرواة المذكورين في الأحاديث المعنعنة). فلم يظهر هذا العلم بغرض الإساءة إلى أي من الصحابة أو التابعين مع اليقين التام أن كل الصحابة عدول ولو كان فيهم ما فيهم، لكنهم غير معصومين، أما أن يتصدى لذلك كل من هب ودب فهذا مرفوض خاصة أنهم جميعاً تابعين ونتمنى أن يكونوا تابعين بإحسان إن شاء الله.
فمن أفاء الله عليه - من المحدثين أو المؤرخين - بهذا العلم وبالعين البصيرة في قراءة التاريخ وفهم مفاتيح الشخصية (أمثال العقاد وغيره) في العصر الحديث، يجب ألا يمنع من أن يدلي بدلوه بترجمة هؤلاء الرواة خاصة الذين كثر عنهم الحديث لرسول الله ص، وذلك لفهم روح وملابسات الأحاديث وربما دوافعها خاصة إن كانت آحادا أو غريبة. لكن الأمر الأهم هو إلتزام آداب الجرح في الكتابة وعدم إستنباط العيوب والتحقق من القصص المروي الذي يعزز فكرة مفتاح الشخصية، حتى لا يكون الأمر بلا قيود أو بدون برهان. فغربلة الأحاديث الغريبة التي تتعارض بصورة فجة مع آي القرآن أو الفطرة أو العلم القطعي فرض كفاية على كل محدث ذي لب كي لا تكون مدخل لطعن الطاعنين أو ضعاف النفوس من الشيعة أو النصارى والمستشرقين.
ولعل ما دفعني لكتابة هذا المقال هو الخلاف الذي لا ينتهي بين السنة والشيعة أو ربما بين السنة أنفسهم أشاعرة ومعتزلين، بخصوص ما يؤخد وما يرد من الأحاديث. فالأصل أن كل إبن آدم يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا المقام (الرسول)، وإذا كثر الحديث عن رسول الله يعرض على القرآن فما وافقه يؤخذ قاله أو لم يقله (أو كما قال ص)، فالعقائد لا تؤخذ إلا من المتواتر كما أجمع جمهور العلماء.
فمن أفاء الله عليه - من المحدثين أو المؤرخين - بهذا العلم وبالعين البصيرة في قراءة التاريخ وفهم مفاتيح الشخصية (أمثال العقاد وغيره) في العصر الحديث، يجب ألا يمنع من أن يدلي بدلوه بترجمة هؤلاء الرواة خاصة الذين كثر عنهم الحديث لرسول الله ص، وذلك لفهم روح وملابسات الأحاديث وربما دوافعها خاصة إن كانت آحادا أو غريبة. لكن الأمر الأهم هو إلتزام آداب الجرح في الكتابة وعدم إستنباط العيوب والتحقق من القصص المروي الذي يعزز فكرة مفتاح الشخصية، حتى لا يكون الأمر بلا قيود أو بدون برهان. فغربلة الأحاديث الغريبة التي تتعارض بصورة فجة مع آي القرآن أو الفطرة أو العلم القطعي فرض كفاية على كل محدث ذي لب كي لا تكون مدخل لطعن الطاعنين أو ضعاف النفوس من الشيعة أو النصارى والمستشرقين.
ولعل ما دفعني لكتابة هذا المقال هو الخلاف الذي لا ينتهي بين السنة والشيعة أو ربما بين السنة أنفسهم أشاعرة ومعتزلين، بخصوص ما يؤخد وما يرد من الأحاديث. فالأصل أن كل إبن آدم يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا المقام (الرسول)، وإذا كثر الحديث عن رسول الله يعرض على القرآن فما وافقه يؤخذ قاله أو لم يقله (أو كما قال ص)، فالعقائد لا تؤخذ إلا من المتواتر كما أجمع جمهور العلماء.
قواعد أصولية عامة في علم الحديث:
ليس كل ما صح سنده متنه صحيح، وليس كل ما لم يصح سنده متنه غير صحيح.
ليس من أصول الإيمان ولا أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكل حديث جاء في كتب السنة المشهورة لدى الجمهور (ينطبق ذلك على أبي هريرة وغيره).. لأن هذه الأحاديث جاءت بطريق الآحاد (تفيد الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً.. لذلك لا يؤخذ بها في العقائد.. العقائد لا تؤخذ إلا من المتواتر أي الإجماع.. ليس هناك خبراً متواتراً إلا القرآن الكريم..).
وإذا تعارض مدلول حديث مع القرآن فهو رد، أو تعارض مع فطرة بشرية (مثل حديث النخامة) أو علم تجريبي (مثل حديث الذباب) فلا علينا من تركه كما قال الرسول ص: أنتم أعلم بشئون دنياكم.
ليس كل ما صح سنده متنه صحيح، وليس كل ما لم يصح سنده متنه غير صحيح.
ليس من أصول الإيمان ولا أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكل حديث جاء في كتب السنة المشهورة لدى الجمهور (ينطبق ذلك على أبي هريرة وغيره).. لأن هذه الأحاديث جاءت بطريق الآحاد (تفيد الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً.. لذلك لا يؤخذ بها في العقائد.. العقائد لا تؤخذ إلا من المتواتر أي الإجماع.. ليس هناك خبراً متواتراً إلا القرآن الكريم..).
وإذا تعارض مدلول حديث مع القرآن فهو رد، أو تعارض مع فطرة بشرية (مثل حديث النخامة) أو علم تجريبي (مثل حديث الذباب) فلا علينا من تركه كما قال الرسول ص: أنتم أعلم بشئون دنياكم.
مقتتفات من كتاب شيخ المضيرة للكاتب محمود أبي رية
ملحوظة: هذه المقتطفات هي مسئولية الكاتب، وصاحب المدونة ليس مقتنعاً بأطروحاته أو ملتزماً بتوجهه، وهناك رودود كثيرة لأهل السنة والجماعة - على كل إدعاء:
النقد العلمي هو الذي يقرع الحجة بالحجة، ويدفع الدليل بالدليل، والباطل لا يدحض الحق..
أسلم أبو هريرة يوم خيبر 7 هجري بعثه الرسول إلى اليمن عام 8 هجري.. وبالتالي لازم الرسول سنة وبضع أشهر.
قول الرسول لأبي هريرة زر غباً تزدد حباً
شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويمنعها الفقراء (يدعى إليها من يأباها، ويمنعها من يأتيها.. أي بغير دعوة).
قالت عائشة (رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلا مهذاراً.. المهذار كثرة سقط الكلام).
لم يمكث أبو هريرة مع الرسول إلا سنة وبضع أشهر (9)، وأنتقل إلى البحرين مع أبي العلاء الحضرمي حتى وفاة رسول الله وبعد ولاية أبي بكر وعمر: قال الرسول لأب العلاء أوصيك به خيرا، فقال أبو العلاء لأبي هريرة أنظر ماذا تحب، قال أؤذن لك ولا تسبقني بآمين..
قيل أن أبا هريرة لم يروي الحديث إلا بعد مقتل عثمان.. وقد نهاه عمر عن رواية الحيث مراراً بدرته، وأنذره إن عاد لرواية نفاه لبلاده.
كان أبو هريرة يأكل المضيرة على مائدة معاوية، ويصلي وراء على، ويسكن الجبل في القتال: فيقول مأدبة معاوية أدسم والصلاة وراء على أفضل والسكنى في الجبل أسلم..
لما رجع أبو هريرة إلى عمر تقاسمه ماله الذي إدعى أنه من تجارته (الولاة لا يتاجرون بأموال المسلمين) وقاسمه ماله وأوجعه على ظهره بدرته (أدماه) وقرعه بكلامه أنه (ذهب إلى البحرين بلا نعلين)!!!
بعد عودته من البحرين لزم أبو هريرة كعب الأحبار (يهودي بالمدينة) وافتتن بإسرائيلياته ونقل منها!!! وأخذ يروي الحديث خاصة بعد غياب درة عمر.
قال عنه كعب الأحبار (المتأمر على قتل عمر!!!): ما رأيت أحداً لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة (فقد عاش ومات أمياً بعد أن ناهز الثمانين سنة).
قال أبو حنيفة في رواة الحديث: الصحابة كلهم عدول إلا رجالاً، وعد منهم أبو هريرة وأنس بن مالك (أما أنس فاختلط في آخر عمره وكان يفتي من عقله وأنا لا أقلد عقله.. وأبو هريرة يروي كل ماسمع من غير أن يعلم المعني ويعرف الناسخ والمنسوخ)، فقد قال عمر: كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع.
أنكر الصحابة الكبار كثرة رواية حديث أبي هريرة عن النبي، خاصة عائشة لطول الأيام بها وبه إلى أن ماتت قبله بسنة.
قال العلامة عبد الحسين شرف الدين في الكم الذي رواه أبو هريرة: فلينظر ناظر بعقله في أبي هريرة وتأخره في إسلامه، وخموله في حسبه وأميته، وما إلى ذلك مما يوجب إقلاله، ثم لينظر إلى الخلفاء الأربعة وسبقهم وإختصاصهم وحضورهم في تشريع الأحكام، وحسن بلائهم في 52 سنة، 23 سنة بخدمة الرسول و29 سنة من بعده، ساسوا فيها الأمة وسادوا الأمم....الخ.
قال ابن الأثير رواية أبو هريرة شك فيها قوم لكثرتها.
قال السيد على رشيد رضا: لو عاش عمر إلى أن توفى أبو هريرة ما وصلنا هذه الأحاديث الكثيرة.
أبو سفيان وأولاده هم ما جاء فيهم إذهبوا فأنتم الطلقاء يوم فتح مكة، وهم المؤلفة قلوبهم (أناس من مكة أسلموا يوم الفتح إسلاما ضعيفا، يعطوا من السبي تأليفا لقلوبهم أو دفعا لأذاهم أو تثبيتهم في الإسلام.. إلى أن أوقف عمر عطاؤهم).
قلب معاوية بن أبي سفيان نظام الحكم في الدولة الإسلامية من خلافة عادلة أساسها الشورى إلى ملك عضوض يقوم على الإستبداد.
هل فعلا معاوية (الذي أكثر في عهده أبو هريرة رواية الحديث بما يعجبه) من كتاب الوحي!!! أم من كتاب الرسول للملوك وعروض بيت المال!!! قال زوج إبنة أبي هريرة: كان إذا أعطاه معاوية سكت وإن منعه تكلم (يقصد ذكر الرسول لمناقب علي).
أكثر أحاديث أبي هريرة عنعنة (خاصة من بطلي الإسرائيليات كعب الأحبار ووهب بن منبه)، وقليل منها مرفوعاً لم يسمعه سواه.
ثلاثة أحاديث مروية عن أبي هريرة جديرة بالدراسة وإعادة التقييم:
بسط الثوب حتى لاينسى رواية الحديث.
المزود الذي لم ينضب من التمر إلا بعد حرب معاوية في الفتنة الكبرى.
الأجربة التي يكنها من الأحاديث التي إختصها به الرسول ويخشى من الفتنة.
ولم يظهر هذا كله إلا بعد وفاة كبار الصحابة خاصة عمر.
قال رسول الله ص: إن الأحاديث ستكثر بعدي كما كثرت عن الأنبياء قبلي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه قلته أو لم أقله.
ركون أبي هريرة وتشيعه لمعاوية: الأيه (ولاتركنوا إلى الذين ظلموا) ، (ولا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) ، الحديث (من إزداد تقربا من السلطان إزداد بعدا من الله).
النقد العلمي هو الذي يقرع الحجة بالحجة، ويدفع الدليل بالدليل، والباطل لا يدحض الحق..
أسلم أبو هريرة يوم خيبر 7 هجري بعثه الرسول إلى اليمن عام 8 هجري.. وبالتالي لازم الرسول سنة وبضع أشهر.
قول الرسول لأبي هريرة زر غباً تزدد حباً
شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويمنعها الفقراء (يدعى إليها من يأباها، ويمنعها من يأتيها.. أي بغير دعوة).
قالت عائشة (رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلا مهذاراً.. المهذار كثرة سقط الكلام).
لم يمكث أبو هريرة مع الرسول إلا سنة وبضع أشهر (9)، وأنتقل إلى البحرين مع أبي العلاء الحضرمي حتى وفاة رسول الله وبعد ولاية أبي بكر وعمر: قال الرسول لأب العلاء أوصيك به خيرا، فقال أبو العلاء لأبي هريرة أنظر ماذا تحب، قال أؤذن لك ولا تسبقني بآمين..
قيل أن أبا هريرة لم يروي الحديث إلا بعد مقتل عثمان.. وقد نهاه عمر عن رواية الحيث مراراً بدرته، وأنذره إن عاد لرواية نفاه لبلاده.
كان أبو هريرة يأكل المضيرة على مائدة معاوية، ويصلي وراء على، ويسكن الجبل في القتال: فيقول مأدبة معاوية أدسم والصلاة وراء على أفضل والسكنى في الجبل أسلم..
لما رجع أبو هريرة إلى عمر تقاسمه ماله الذي إدعى أنه من تجارته (الولاة لا يتاجرون بأموال المسلمين) وقاسمه ماله وأوجعه على ظهره بدرته (أدماه) وقرعه بكلامه أنه (ذهب إلى البحرين بلا نعلين)!!!
بعد عودته من البحرين لزم أبو هريرة كعب الأحبار (يهودي بالمدينة) وافتتن بإسرائيلياته ونقل منها!!! وأخذ يروي الحديث خاصة بعد غياب درة عمر.
قال عنه كعب الأحبار (المتأمر على قتل عمر!!!): ما رأيت أحداً لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة (فقد عاش ومات أمياً بعد أن ناهز الثمانين سنة).
قال أبو حنيفة في رواة الحديث: الصحابة كلهم عدول إلا رجالاً، وعد منهم أبو هريرة وأنس بن مالك (أما أنس فاختلط في آخر عمره وكان يفتي من عقله وأنا لا أقلد عقله.. وأبو هريرة يروي كل ماسمع من غير أن يعلم المعني ويعرف الناسخ والمنسوخ)، فقد قال عمر: كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع.
أنكر الصحابة الكبار كثرة رواية حديث أبي هريرة عن النبي، خاصة عائشة لطول الأيام بها وبه إلى أن ماتت قبله بسنة.
قال العلامة عبد الحسين شرف الدين في الكم الذي رواه أبو هريرة: فلينظر ناظر بعقله في أبي هريرة وتأخره في إسلامه، وخموله في حسبه وأميته، وما إلى ذلك مما يوجب إقلاله، ثم لينظر إلى الخلفاء الأربعة وسبقهم وإختصاصهم وحضورهم في تشريع الأحكام، وحسن بلائهم في 52 سنة، 23 سنة بخدمة الرسول و29 سنة من بعده، ساسوا فيها الأمة وسادوا الأمم....الخ.
قال ابن الأثير رواية أبو هريرة شك فيها قوم لكثرتها.
قال السيد على رشيد رضا: لو عاش عمر إلى أن توفى أبو هريرة ما وصلنا هذه الأحاديث الكثيرة.
أبو سفيان وأولاده هم ما جاء فيهم إذهبوا فأنتم الطلقاء يوم فتح مكة، وهم المؤلفة قلوبهم (أناس من مكة أسلموا يوم الفتح إسلاما ضعيفا، يعطوا من السبي تأليفا لقلوبهم أو دفعا لأذاهم أو تثبيتهم في الإسلام.. إلى أن أوقف عمر عطاؤهم).
قلب معاوية بن أبي سفيان نظام الحكم في الدولة الإسلامية من خلافة عادلة أساسها الشورى إلى ملك عضوض يقوم على الإستبداد.
هل فعلا معاوية (الذي أكثر في عهده أبو هريرة رواية الحديث بما يعجبه) من كتاب الوحي!!! أم من كتاب الرسول للملوك وعروض بيت المال!!! قال زوج إبنة أبي هريرة: كان إذا أعطاه معاوية سكت وإن منعه تكلم (يقصد ذكر الرسول لمناقب علي).
أكثر أحاديث أبي هريرة عنعنة (خاصة من بطلي الإسرائيليات كعب الأحبار ووهب بن منبه)، وقليل منها مرفوعاً لم يسمعه سواه.
ثلاثة أحاديث مروية عن أبي هريرة جديرة بالدراسة وإعادة التقييم:
بسط الثوب حتى لاينسى رواية الحديث.
المزود الذي لم ينضب من التمر إلا بعد حرب معاوية في الفتنة الكبرى.
الأجربة التي يكنها من الأحاديث التي إختصها به الرسول ويخشى من الفتنة.
ولم يظهر هذا كله إلا بعد وفاة كبار الصحابة خاصة عمر.
قال رسول الله ص: إن الأحاديث ستكثر بعدي كما كثرت عن الأنبياء قبلي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه قلته أو لم أقله.
ركون أبي هريرة وتشيعه لمعاوية: الأيه (ولاتركنوا إلى الذين ظلموا) ، (ولا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) ، الحديث (من إزداد تقربا من السلطان إزداد بعدا من الله).
يزيد بن معاوية في الميزان
الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
يزيد بن معاوية لم يكن بذلك الشاب اللاهي، كما تصوره لنا الروايات التاريخية الركيكة؛ لكن العجب في المؤلفين من الكتاب الذين لا يبحثون عن الخبر الصحيح، أو حتى عمّن يأخذوه، فيجمعون في هذه المؤلفات الغث والسمين من الروايات والكلام الفارغ الملفق، فتراهم يطعنون فيه فيظهرون صورته و يشوهونها، بأبشع تصوير. وللأسف فإن بعض المؤرخين من أهل السنة أخذوا من هذه الروايات الباطلة وأدرجوها في كتبهم، أمثال ابن كثير في البداية والنهاية، وابن الأثير في الكامل، وابن خلدون في العبر والإمام الذهبي في تاريخ الإسلام وفي غيرها من الكتب.
والمصيبة في هؤلاء الكتاب المعاصرين أنهم يروون هذا الطعن عن بعض الشيعة المتعصبين أمثال أبي مخنف والواقدي وابن الكلبي وغيرهم، وغير هذا أن معظم هذه الكتب ألفت على عهد العباسيين، وكما هو معروف مدى العداء بين الأمويين والعباسيين، فكانوا يبحثون عمّن يطعن في هؤلاء فيملؤون هذه الكتب بالأكاذيب. وهناك أمور وأشياء أخرى وطامات كبرى في غيرها من الكتب، رويت لتشويه صورة وسيرة يزيد رحمه الله ووالده معاوية رضي الله عنه، وكان على رأس هؤلاء الطاعنين بنو العباس وأنصار ابن الزبير حين خرج على يزيد والشيعة الروافض عليهم غضب الله، والخوارج قاتلهم الله و أخزاهم.
منقبة ليزيد بن معاوية:
أخرج البخاري عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحة حمص وهو في بناء له ومعه أم حرام، قال عمير: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا، فقالت أم حرام: قلت يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم، فقلت: أنا فيهم قال: لا. البخاري مع الفتح (6/120). فتحرك الجيش نحو القسطنطينية بقيادة بسر بن أرطأ رضي الله عنه عام خمسين من الهجرة، فاشتد الأمر على المسلمين فأرسل بسر يطلب المدد من معاوية فجهز معاوية جيشاً بقيادة ولده يزيد، فكان في هذا الجيش كل من أبو أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمر وابن الزبير وابن عباس وجمع غفير من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين. وأخرج البخاري أيضاً، عن محمود بن الربيع في قصة عتبان بن مالك قال محمود: فحدثتها قوماً فيهم أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي توفي فيها، ويزيد بن معاوية عليهم – أي أميرهم - بأرض الروم . البخاري مع الفتح (3/73). وفي هذا الحديث منقبة ليزيد رحمه الله حيث كان في أول جيش يغزوا أرض الروم.
بعضاً من سيرة يزيد
ولنقف قليلاً، على بعض من سيرة يزيد بن معاوية رحمه الله قبل أن يرشحه والده لولاية العهد، و ما هي الحال التي كان عليها قبل توليه الخلافة، و مدى صدق الروايات التي جاءت تذم يزيد وتصفه بأوصاف مشينة.
عمل معاوية رضي الله عنه جهده من البداية في سبيل إعداد ولده يزيد، و تنشئته التنشئة الصحيحة، ليشب عليها عندما يكبر، فسمح لمطلقته ميسون بنت بحدل الكلبية، وكانت من الأعراب، وكانت من نسب حسيب، ومنها رزق بابنه يزيد (أنظر ترجمتها في: تاريخ دمشق لابن عساكر - تراجم النساء -ص397-401) ، وكان رحمه الله وحيد أبيه، فأحب معاوية رضي الله عنه أن يشب يزيد على حياة الشدة والفصاحة فألحقه بأهل أمه ليتربى على فنون الفروسية، ويتحلى بشمائل النخوة والشهامة والكرم والمروءة، إذ كان البدو أشد تعلقاً بهذه التقاليد. كما أجبر معاوية ولده يزيد على الإقامة في البادية، وذلك لكي يكتسب قدراً من الفصاحة في اللغة، كما هو حال العرب في ذلك الوقت. وعندما رجع يزيد من البادية، نشأ وتربى تحت إشراف والده (معاوية رضي الله عنه كان من رواة الحديث: تهذيب التهذيب لابن حجر 10/207)، روى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث وبعض أخبار أهل العلم. مثل حديث: من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، و حديث آخر في الوضوء، وروى عنه ابنه خالد وعبد الملك بن مروان، وقد عده أبوزرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة، وهي الطبقة العليا (البداية والنهاية لابن كثير 8/226-227). وقد اختار معاوية دَغْفَل بن حنظلة السدوسي الشيباني (ت65هـ)، مؤدباً لولده يزيد، وكان دغفل علامة بأنساب العرب، وخاصة نسب قريش، وكذلك عارفاً بآداب اللغة العربية (ترجمته في: تهذيب التهذيب لابن حجر (3/210).
توليه منصب ولاية العهد بعد أبيه
بدأ معاوية رضي الله عنه يفكر فيمن يكون الخليفة من بعده، ففكر معاوية في هذا الأمر ورأى أنه إن لم يستخلف ومات ترجع الفتنة مرة أخرى. فقام معاوية رضي الله عنه باستشارة أهل الشام في الأمر، فاقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية، فرشح ابنه يزيد، فجاءت الموافقة من مصر وباقي البلاد وأرسل إلى المدينة يستشيرها وإذ به يجد المعارضة من الحسين وابن الزبير، وابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عباس (انظر: تاريخ الإسلام للذهبي ص147-152) وسير أعلام النبلاء (3/186) والطبري (5/303). وكان اعتراضهم حول تطبيق الفكرة نفسها، لا على يزيد بعينه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المؤرخين والمفكرين المسلمين قد وقفوا حيال هذه الفكرة مواقف شتى، ففيهم المعارض، ومنهم المؤيد، وكانت حجة الفريق المعارض تعتمد على ما وردته بعض الروايات التاريخية، التي تشير أن يزيد بن معاوية كان شاباً لاهياً عابثاً، مغرماً بالصيد وشرب الخمر، وتربية الفهود والقرود والكلاب الخ (نسب قريش لمصعب الزبيري (ص127) وكتاب الإمامة والسياسة المنحول لابن قتيبة (1/163) وتاريخ اليعقوبي (2/220) وكتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي (5/17) ومروج الذهب للمسعودي (3/77) وصورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية فريال بنت عبد الله (ص 86- 122 ).
ولكننا نرى أن مثل هذه الأوصاف لا تمثل الواقع الحقيقي لما كانت عليه حياة يزيد بن معاوية، فالإضافة إلى ما سبق أن أوردناه عن الجهود التي بذلها معاوية في تنشئة وتأديب يزيد، نجد رواية في مصادرنا التاريخية قد تساعدنا في دحض مثل تلك الآراء. فيروي البلاذري أن محمد بن علي بن أبي طالب - المعروف بابن الحنفية - دخل يوماً على يزيد بن معاوية بدمشق ليودعه بعد أن قضى عنده فترة من الوقت، فقال له يزيد، وكان له مكرماً: يا أبا القاسم، إن كنت رأيت مني خُلُقاً تنكره نَزَعت عنه، وأتيت الذي تُشير به علي؟ فقال: والله لو رأيت منكراً ما وسعني إلاّ أن أنهاك عنه، وأخبرك بالحق لله فيه، لما أخذ الله على أهل العلم عن أن يبينوه للناس ولا يكتموه، وما رأيت منك إلاّ خيراً (أنساب الأشراف للبلاذري 5/17).
و يروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع - كان داعية لابن الزبير - مشى من المدينة هو وأصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب، فقال محمد ما رأيت منه ما تذكرون، قد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة، قالوا: ذلك كان منه تصنعاً لك، قال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع؟ ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر، فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا، قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه، فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة، ولست من أمركم في شيء (البداية والنهاية 8/233 وتاريخ الإسلام ص274).
كما أن مجرد موافقة عدد من كبار الشخصيات الإسلامية، من أمثال عبد الله بن الزبير وعبد الله ابن عباس وابن عمر وأبو أيوب الأنصاري، على مصاحبة جيش يزيد في سيره نحو القسطنطينية فيها خير دليل على أن يزيد كان يتميز بالاستقامة، وتتوفر فيه كثير من الصفات الحميدة، ويتمتع بالكفاءة والمقدرة لتأدية ما يوكل إليه من مهمات؛ وإلا لما وافق أمثال هؤلاء الأفاضل من الصحابة أن يتولى قيادتهم شخص مثل يزيد. وبالرغم من كل ما سبق أن أوردناه من روايات، فإن أحد المؤرخين المحدثين قد أعطى حكماً قاطعاً بعدم أهلية يزيد للخلافة، دون أن يناقش الآراء التي قيلت حول هذا الموضوع، أو أن يقدم أي دليل تاريخي يعضد رأيه، ويمضي ذلك المؤرخ المحدث في استنتاجاته، فيرى أن معاوية لم يبايع لولده يزيد بولاية العهد، إلاّ مدفوعاً بعاطفة الأبوة (موسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي 2/46-47).
لكننا نجد وجهة النظر التي أبداها الأستاذ محب الدين الخطيب - حول هذه المسألة - جديرة بالأخذ بها للرد على ما سبق، فهو يقول: إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر وعمر في مجموع سجاياهما، فهذا ما لم يبلغه في تاريخ الإسلام، ولا عمر بن عبد العزيز، وإن طمعنا بالمستحيل وقدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر، فلن تتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر وعمر، وإن كان مقياس الأهلية، الاستقامة في السيرة، والقيام بحرمة الشريعة، والعمل بأحكامها، والعدل في الناس، والنظر في مصالحهم، والجهاد في عدوهم، وتوسيع الآفاق لدعوتهم، والرفق بأفرادهم وجماعاتهم، فإن يزيد يوم تُمحّص أخباره، ويقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم، وأجزل الثناء عليهم (حاشية العواصم من القواصم لابن العربي ص221).
ونجد أيضاً في كلمات معاوية نفسه ما يدل على أن دافعه في اتخاذ مثل هذه الخطوة هو النفع للصالح العام وليس الخاص، فقد ورد على لسانه قوله: اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله، فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كانت إنما حملني حبّ الوالد لولده، وأنه ليس لما صنعت به أهلاً، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك (تاريخ الإسلام للذهبي ص169 - خطط الشام لمحمد كرد علي 1/137).
ويتبين من خلال دراسة هذه الفكرة – أي فكرة تولية يزيد ولاية العهد من بعد أبيه، أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كان محقاً فيما ذهب إليه، إذ أنه باختياره لابنه يزيد لولاية العهد من بعده، قد ضمن للأمة الإسلامية وحدتها، وحفظ لها استقرارها، وجنبها حدوث أية صراعات على مثل هذا المنصب. وقد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه، كل من ابن العربي (العواصم من القواصم ص228-229 وابن خلدون في المقدمة ص210-211) يقول ابن خلدون: والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا، فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك، وسكوتهم عنه، دليل على انتفاء الريب منه، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم - كلهم - أجلّ من ذلك، وعدالتهم مانعة منه.. ويقول في موضع آخر: عهد معاوية إلى يزيد، خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه، مع أن ظنهم كان به صالحاً، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظن بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهد إليه، و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشا لله لمعاوية من ذلك.
قلت: ومعاوية رضي الله أعلم الناس بخفايا يزيد ولو لم يكن عنده مرضياً لما اختاره.
و أما ما يظنه بعض الناس بأن معاوية كان أول من ابتدع الوراثة في الإسلام، فقد أخطأ الظن، فدافع معاوية في عهده لابنه يزيد بالخلافة من بعده، كان محمولاً على البيعة من الناس و ليس كونه محمولاً على الوراثة، ولو كان ما رآه هو الأخير لما احتاج إلى بيعتهم بل لاكتفى ببيعته منه وحده.
فإن قيل لو ترك الأمر شورى يختار الناس ما يرونه خليفة من بينهم، قلنا قد سبقه بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بيعته لأبي بكر يوم السقيفة، وسبقه أبو بكر أيضاً في وصيته لعمر بولاية العهد من بعده، وما فعله عمر حين حصر الخلافة في الستة. والغريب في الأمر أن أكثر من رمى معاوية وعابه في تولية يزيد وأنه ورثّه توريثاً هم الشيعة، مع أنهم يرون هذا الأمر في علي بن أبي طالب وسلالته إلى اثني عشر خليفة منهم.
أورد ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم في أفاضل الصحابة: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه فيها فقهاً، ولا أعظمها فيها شرفاً؟ قلنا: نعم، قال: وأنا أقول ذلك، ولكن والله لئن تجتمع أمة محمد أحب إلىّ من أن تفترق (ص231). يعني يزيد ليس أفقه ولا أفضل ولكن أداه لمنع الفرقة.
وهل يتصور أيضاً ما زعم الكذابون، من أن معاوية رضي الله عنه كان غير راض عن لهو يزيد وفسقه، وشربه، وأنه أكثر من نصحه فلم ينتصح، فقال – لما يئس من استجابته: إذاً عليك بالليل، استتر به عن عيون الناس، وإني منشدك أبياتاً، فتأدب بها واحفظها، فأنشده:
انصب نهاراً في طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدجى * واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الأريب
كم فاسق تحسبه ناسكاً * قد باشر الليل بأمر عجيب
غطى عليه الليل أستاره فبات في أمن و عيش خصيب
و لذة لأحمق مكشوفة * يشفي بها كل عدو غريب
كذا قال الكذابون الدهاة، ولكن فضحهم الله، فهذه الأبيات لم يقلها معاوية رضي الله عنه ولم تكن قيلت بعدُ، ولا علاقة لها بمعاوية ولا بيزيد، ولا يعرفها أهل البصرة، إلا ليحيى بن خالد البرمكي، أي الذي عاش زمن هارون الرشيد، أي بعد معاوية وابنه بنحو مائة عام (تاريخ دمشق لابن عساكر 65/403).
بعض من الأحاديث المكذوبة في حق يزيد
وقد زورت أحاديث في ذم يزيد كلها موضوعة لا يصح منها شيء فهذه بعضها، وإلا فهناك الكثير:-
منها قول الحافظ أبو يعلى: عن أبي عبيدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد. (حديث منقطع - البداية والنهاية (8/231).
وحديث آخر أورده ابن عساكر في تاريخه، بلفظ: أول من يغير سنتي رجل من بني أمية يقال له يزيد (تاريخ دمشق 18/160)، وقد حسن الشيخ الألباني سنده، وقال معلقاً عليه: ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة، وجعله وراثة، والله أعلم. الصحيحة (4/329-330). قلت: الحديث الذي حسنه الشيخ الألباني دون زيادة لفظة (يقال له يزيد)، أما قوله بأن المراد تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثياً، فإن معاوية رضي الله عنه هو أول من أخذ بهذا النظام وجعله وراثياً، إذاً فالحديث لا يتعلق بيزيد بن معاوية بعينه، والله أعلم.
ومنها أيضاً قول: لا بارك الله في يزيد الطعان اللعان، أما أنه نُعي إلي حبيبي حسين (كتاب الموضوعات لابن الجوزي - للإمام الذهبي ص159).
علاقة يزيد بآل البيت رضي الله عنهم
ولم يقع بين يزيد وبين أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعكر العلاقة والقرابة بينهما سوى خروج الحسين وبعض أهله ومقتلهم على يد أهل العراق بكربلاء ومع هذا فقد بقيت العلاقة الحسنة بين يزيد وآل البيت وكانوا أولاد عمومته ونراهم قد اجتنبوا الخروج عليه أيام الحرة ومكة بل كانت صلته بعلي بن الحسين وعبد الله بن العباس ومحمد بن الحنفية أيام الحرة جيدة. أما عبد الله بن جعفر فقد كانت صلته بمعاوية ويزيد من بعده غاية في المودة والصداقة والولاء وكان يزيد لا يرد لابن جعفر طلباً وكانت عطاياه له تتوارد فيقوم ابن جعفر بتوزيعها على أهل المدينة، وكان عبد الله بن جعفر يقول في يزيد أتلومونني على حسن الرأي في هذا (قيد الشريد في أخبار يزيد ص35).
موقف العلماء من يزيد بن معاوية
وقد سئل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي عمن يصرح بلعن يزيد بن معاوية، هل يحكم بفسقه أم لا؟ وهل كان راضياً بقتل الحسين بن علي أم لا؟ وهل يسوغ الترحم عليه أم لا؟ فلينعم بالجواب مثاباً.
فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً فهو الملعون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلم ليس بلعان، وكيف يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم وقد ورد النهي عن ذلك - لحديث عمران بن الحصين قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. جمع الفوائد (3/353)، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي صلى الله عليه وسلم - هو أثر موقوف على ابن عمر بلفظ: نظر عبد الله بن عمر رضي الله عنه يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك، وهو حديث حسن (غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام للشيخ الألباني ص197)، وقد صح إسلام يزيد بن معاوية وما صح قتله الحسين ولا أمر به ولا رضيه ولا كان حاضراً حين قتل، ولا يصح ذلك منه ولا يجوز أن يُظن ذلك به، فإن إساءة الظن بالمسلم حرام وقد قال الله تعالى (اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم) [الحجرات/12]، ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين أو رضي به، فينبغي أن يعلم أن به غاية الحمق، فإن من كان من الأكابر والوزراء، والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله ومن الذي رضي به ومن الذي كرهه لم يقدر على ذلك، وإن كان الذي قد قُتل في جواره وزمانه وهو يشاهده، فكيف لو كان في بلد بعيد، وزمن قديم قد انقضى، فكيف نعلم ذلك فيما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد، وقد تطرق التعصب في الواقعة فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب فهذا الأمر لا تُعلم حقيقته أصلاً، وإذا لم يُعرف وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به. ومع هذا فلو ثبت على مسلم أنه قتل مسلماً فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر، بل هو معصية، وإذا مات القاتل فربما مات بعد التوبة والكافر لو تاب من كفره لم تجز لعنته فكيف بمؤمن تاب عن قتل.. ولم يُعرف أن قاتل الحسين مات قبل التوبة وقد قال الله تعالى (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون) [الشورى/25] فإذن لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين بعينه لم يروه النص، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى. ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره مع جواز اللعن عليه لا يُقال له يوم القيامة: لِمَ لَمْ تلعن إبليس؟ ويقال للاعن: لم لعنت ومِنْ أين عرفت أنه مطرود ملعون، والملعون هو المبعد من الله تعالى وذلك علوم الغيب، وأما الترحم عليه فجائز، بل مستحب، بل هو داخل في قولنا: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنه كان مؤمناً والله أعلم بالصواب (قيد الشريد من أخبار يزيد ص57-59).
وقد سئل ابن الصلاح عن يزيد فقال: لم يصح عندنا أنه أمر بقتل الحسين رضي الله عنه والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك، وأما سب يزيد ولعنه فليس ذلك من شأن المؤمنين، وإن صح أنه قتله أو أمر بقتله، وقد ورد في الحديث المحفوظ: إن لعن المؤمن كقتاله - البخاري مع الفتح (10/479)، وقاتل الحسين لا يكفر بذلك، وإنما ارتكب إثماً، وإنما يكفر بالقتل قاتل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والناس في يزيد على ثلاث فرق، فرقة تحبه وتتولاه، وفرقة تسبه وتلعنه وفرقة متوسطة في ذلك، لا تتولاه ولا تلعنه وتسلك به سبيل سائر ملوك الإسلام وخلفائهم غير الراشدين في ذلك وشبهه، وهذه هي المصيبة – أي التي أصابت الحق - مذهبها هو اللائق لمن يعرف سِيَر الماضين ويعلم قواعد الشريعة الظاهرة . قيد الشريد (ص59-60) .
و سُئل شيخ الإسلام عن يزيد أيضاً فقال: افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق طرفان ووسط، فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافراً منافقاً، وإنه سعى في قتل سِبط رسول الله تشفياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاماً منه وأخذاً بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة وخاله الوليد بن عتبة وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر وغيرها، وقالوا تلك أحقاد بدرية وآثار جاهلية. وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان، فتكفير يزيد أسهل بكثير. والطرف الثاني يظنون أنه كان رجلاً صالحاً وإماماً عدل وإنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحمله بيده وبرّك عليه وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبياً.. وهذا قول غالية العدوية والأكراد ونحوهم من الضُلاّل. والقول الثالث: أنه كان ملكاً من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات ولم يولد إلا في خلافة عثمان ولم يكن كافراً ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين وفُعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صحابياً ولا من أولياء الله الصالحين وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق، فرقة لعنته وفرقة أحبته وفرقة لا تسبه ولا تحبه و هذا هو المنصوص عن الأمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين (سؤال في يزيد ص26). قلت ونعم الرأي..
وفاة يزيد بن معاوية
في أثناء حصار مكة جاءت الأخبار بوفاة يزيد بن معاوية رحمه الله والبيعة لابنه معاوية. وكان ذلك لعشر خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت وفاته بحوران وقيل حوارين من أرض الشام، قال عبد الرحمن أبي معذور: حدثني بعض أهل العلم قال: آخر ما تكلم به يزيد بن معاوية: اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبه ولم أرده (قيد الشريد ص50).
الخاتمة
يزيد رحمه الله قد شوهت سيرته تشويهاً عجيباً، فنسبوا إليه شرب الخمر والفجور وترك الصلاة وتحميله أخطاء غيره دونما دليل. فيطعنون فيه وفي دينه، فقط لأجل أن يشوهوا ويثبتوا أنه لا يستحق الخلافة، ولا شك أنه مفضول وأن الحسين وغيره من الصحابة كانوا أفضل منه بدرجات ولهم صحبة وسابقية في الإسلام، لكن الطعن في دينه أمرٌ غير ثابت، بدلالة أثر ابن الحنفية الذي ذكرته آنفاً، وهناك قول مشابه لابن عباس يثبت فيه أن يزيد براء من هذه الأقوال التي يقولونها فيه، وهو أنه لما قدم ابن عباس وافداً على معاوية رضي الله عنه، أمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيه – أي أن يأتي ابن عباس، فأتاه في منزله، فرحب به ابن عباس وحدثه، فلما خرج، قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس (البداية والنهاية 8/228-229 وتاريخ دمشق 65/403-404).
يقول الله تعالى: (يأيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) [الحجرات/6] فأبو مخنف هذا وأمثاله من الرواة الكذابين الغالين ممن ينطبق عليهم لفظ الفاسق، فلا يقبل لهم قول خاصة إذا كان فيه طعن في أحد من المسلمين. أما ما لفقوه بيزيد من أن له يداً في قتل الحسين، وأنهم فسروا كلامه لعبيد الله بن زياد بأن يمنع الحسين من دخول الكوفة وأن يأتيه به، يعني اقتله وائتني برأسه، فهذا لم يقل به أحد وإنما هو من تلبيس الشيطان على الناس وإتباعهم للهوى والتصديق بكل ما يرويه الرافضة من روايات باطلة تقدح في يزيد ومعاوية، وأن أهل العراق والأعراب هم الذين خذلوا الحسين وقتلوه رضي الله عنه كما قال بذلك العلماء. روى البخاري عن شعبة عن محمد بن أبي يعقوب سمعت عبد الرحمن بن أبي نعيم: أن رجلاً من أهل العراق سأل ابن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب؟ فقال ابن عمر: انظر إلى هذا يسأل عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا (الفتح 10/440 وصحيح سنن الترمذي 3/224).
أما قول الإمام الذهبي في سيره عن يزيد بأنه ممن لا نسبه ولا نحبه وأنه كان ناصبياً فظاً غليظاً جلفاً متناول المسكر ويفعل المنكر (سير أعلام النبلاء 4/36). قلت: إن الإنصاف العظيم الذي يتمتع به الذهبي رحمه الله جعله لا يكتفي بسرد تاريخ المترجم له دون تعليقه الشخصي؛ وذلك لإنصاف المترجم له فيما أشيع عنه، للخروج بحكم عام على المترجم له (وهذا عين العدل في تخريج تراجم الذهبي ليستفيد منه الصحوة المباركة التي توشك أن تعطي ثمارها رغم أنف الحاقدين الذين يرمون العلماء والدعاة بالفسق والابتداع والميل عن مذهب السلف لأي زلة، لا يعذرون أحداً، ولا يتقون الله في ظنٍّ مرجوح).
فعن تناوله المسكر: لا يصح كما رأي ابن الحنفية (أحرى أن يكون كارهاً لملكه للعداء القديم) - ولا يحل إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك؟ وقد شهد العدل بعدالته.
والإمام أحمد بن حنبل قد أدخل يزيد بن معاوية في جملة الزهاد بعد الصحابة قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين (في كتابه الزهد)، وهذا لا يتعارض مع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية نقلاً عن الإمام أحمد عندما سُئل أتكتب الحديث عن يزيد، قال: لا، ولا كرامة، أوَ ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل (سؤال في يزيد ص27). وكأن رفض الإمام أحمد رواية حديث رسول الله ص عنه ليس دليلاً على فسقه، وليس كل مجروح في رواية الحديث لا تقبل أقواله. فأين هذا من ذكر المؤرخين له في الخمر وأنواع الفجور، ألا يستحيون؟! وإذا سلبهم الله المروءة والحياء، ألا ترعوون أنتم وتزدجرون وتقتدون بفضلاء الأمة (العواصم من القواصم ص246).
وقد أنصف أهل العلم والعقل والسنة والجماعة على أن يزيد كان ملكاً من الملوك المسلمين له حسنات وله سيئات ولم يكن صحابياً ولم يكن كافراً.
والمؤمن الحق يعرف جيداً أن الله تعالى غير سائله عما حصل بين علي ومعاوية أو بين يزيد والحسين أو الذين جاءوا من بعدهم إنما العبد يسئل عما قدم لنفسه. وأخيراً فالعبد التقي الخفي لا ينشغل بذنوب العباد وينسى نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه و ينسى الجذع أو الجدل في عينه معترضاً (السلسلة الصحيحة 1/74).
يزيد بن معاوية لم يكن بذلك الشاب اللاهي، كما تصوره لنا الروايات التاريخية الركيكة؛ لكن العجب في المؤلفين من الكتاب الذين لا يبحثون عن الخبر الصحيح، أو حتى عمّن يأخذوه، فيجمعون في هذه المؤلفات الغث والسمين من الروايات والكلام الفارغ الملفق، فتراهم يطعنون فيه فيظهرون صورته و يشوهونها، بأبشع تصوير. وللأسف فإن بعض المؤرخين من أهل السنة أخذوا من هذه الروايات الباطلة وأدرجوها في كتبهم، أمثال ابن كثير في البداية والنهاية، وابن الأثير في الكامل، وابن خلدون في العبر والإمام الذهبي في تاريخ الإسلام وفي غيرها من الكتب.
والمصيبة في هؤلاء الكتاب المعاصرين أنهم يروون هذا الطعن عن بعض الشيعة المتعصبين أمثال أبي مخنف والواقدي وابن الكلبي وغيرهم، وغير هذا أن معظم هذه الكتب ألفت على عهد العباسيين، وكما هو معروف مدى العداء بين الأمويين والعباسيين، فكانوا يبحثون عمّن يطعن في هؤلاء فيملؤون هذه الكتب بالأكاذيب. وهناك أمور وأشياء أخرى وطامات كبرى في غيرها من الكتب، رويت لتشويه صورة وسيرة يزيد رحمه الله ووالده معاوية رضي الله عنه، وكان على رأس هؤلاء الطاعنين بنو العباس وأنصار ابن الزبير حين خرج على يزيد والشيعة الروافض عليهم غضب الله، والخوارج قاتلهم الله و أخزاهم.
منقبة ليزيد بن معاوية:
أخرج البخاري عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحة حمص وهو في بناء له ومعه أم حرام، قال عمير: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا، فقالت أم حرام: قلت يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم، فقلت: أنا فيهم قال: لا. البخاري مع الفتح (6/120). فتحرك الجيش نحو القسطنطينية بقيادة بسر بن أرطأ رضي الله عنه عام خمسين من الهجرة، فاشتد الأمر على المسلمين فأرسل بسر يطلب المدد من معاوية فجهز معاوية جيشاً بقيادة ولده يزيد، فكان في هذا الجيش كل من أبو أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمر وابن الزبير وابن عباس وجمع غفير من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين. وأخرج البخاري أيضاً، عن محمود بن الربيع في قصة عتبان بن مالك قال محمود: فحدثتها قوماً فيهم أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي توفي فيها، ويزيد بن معاوية عليهم – أي أميرهم - بأرض الروم . البخاري مع الفتح (3/73). وفي هذا الحديث منقبة ليزيد رحمه الله حيث كان في أول جيش يغزوا أرض الروم.
بعضاً من سيرة يزيد
ولنقف قليلاً، على بعض من سيرة يزيد بن معاوية رحمه الله قبل أن يرشحه والده لولاية العهد، و ما هي الحال التي كان عليها قبل توليه الخلافة، و مدى صدق الروايات التي جاءت تذم يزيد وتصفه بأوصاف مشينة.
عمل معاوية رضي الله عنه جهده من البداية في سبيل إعداد ولده يزيد، و تنشئته التنشئة الصحيحة، ليشب عليها عندما يكبر، فسمح لمطلقته ميسون بنت بحدل الكلبية، وكانت من الأعراب، وكانت من نسب حسيب، ومنها رزق بابنه يزيد (أنظر ترجمتها في: تاريخ دمشق لابن عساكر - تراجم النساء -ص397-401) ، وكان رحمه الله وحيد أبيه، فأحب معاوية رضي الله عنه أن يشب يزيد على حياة الشدة والفصاحة فألحقه بأهل أمه ليتربى على فنون الفروسية، ويتحلى بشمائل النخوة والشهامة والكرم والمروءة، إذ كان البدو أشد تعلقاً بهذه التقاليد. كما أجبر معاوية ولده يزيد على الإقامة في البادية، وذلك لكي يكتسب قدراً من الفصاحة في اللغة، كما هو حال العرب في ذلك الوقت. وعندما رجع يزيد من البادية، نشأ وتربى تحت إشراف والده (معاوية رضي الله عنه كان من رواة الحديث: تهذيب التهذيب لابن حجر 10/207)، روى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث وبعض أخبار أهل العلم. مثل حديث: من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، و حديث آخر في الوضوء، وروى عنه ابنه خالد وعبد الملك بن مروان، وقد عده أبوزرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة، وهي الطبقة العليا (البداية والنهاية لابن كثير 8/226-227). وقد اختار معاوية دَغْفَل بن حنظلة السدوسي الشيباني (ت65هـ)، مؤدباً لولده يزيد، وكان دغفل علامة بأنساب العرب، وخاصة نسب قريش، وكذلك عارفاً بآداب اللغة العربية (ترجمته في: تهذيب التهذيب لابن حجر (3/210).
توليه منصب ولاية العهد بعد أبيه
بدأ معاوية رضي الله عنه يفكر فيمن يكون الخليفة من بعده، ففكر معاوية في هذا الأمر ورأى أنه إن لم يستخلف ومات ترجع الفتنة مرة أخرى. فقام معاوية رضي الله عنه باستشارة أهل الشام في الأمر، فاقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية، فرشح ابنه يزيد، فجاءت الموافقة من مصر وباقي البلاد وأرسل إلى المدينة يستشيرها وإذ به يجد المعارضة من الحسين وابن الزبير، وابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عباس (انظر: تاريخ الإسلام للذهبي ص147-152) وسير أعلام النبلاء (3/186) والطبري (5/303). وكان اعتراضهم حول تطبيق الفكرة نفسها، لا على يزيد بعينه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المؤرخين والمفكرين المسلمين قد وقفوا حيال هذه الفكرة مواقف شتى، ففيهم المعارض، ومنهم المؤيد، وكانت حجة الفريق المعارض تعتمد على ما وردته بعض الروايات التاريخية، التي تشير أن يزيد بن معاوية كان شاباً لاهياً عابثاً، مغرماً بالصيد وشرب الخمر، وتربية الفهود والقرود والكلاب الخ (نسب قريش لمصعب الزبيري (ص127) وكتاب الإمامة والسياسة المنحول لابن قتيبة (1/163) وتاريخ اليعقوبي (2/220) وكتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي (5/17) ومروج الذهب للمسعودي (3/77) وصورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية فريال بنت عبد الله (ص 86- 122 ).
ولكننا نرى أن مثل هذه الأوصاف لا تمثل الواقع الحقيقي لما كانت عليه حياة يزيد بن معاوية، فالإضافة إلى ما سبق أن أوردناه عن الجهود التي بذلها معاوية في تنشئة وتأديب يزيد، نجد رواية في مصادرنا التاريخية قد تساعدنا في دحض مثل تلك الآراء. فيروي البلاذري أن محمد بن علي بن أبي طالب - المعروف بابن الحنفية - دخل يوماً على يزيد بن معاوية بدمشق ليودعه بعد أن قضى عنده فترة من الوقت، فقال له يزيد، وكان له مكرماً: يا أبا القاسم، إن كنت رأيت مني خُلُقاً تنكره نَزَعت عنه، وأتيت الذي تُشير به علي؟ فقال: والله لو رأيت منكراً ما وسعني إلاّ أن أنهاك عنه، وأخبرك بالحق لله فيه، لما أخذ الله على أهل العلم عن أن يبينوه للناس ولا يكتموه، وما رأيت منك إلاّ خيراً (أنساب الأشراف للبلاذري 5/17).
و يروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع - كان داعية لابن الزبير - مشى من المدينة هو وأصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب، فقال محمد ما رأيت منه ما تذكرون، قد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة، قالوا: ذلك كان منه تصنعاً لك، قال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع؟ ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر، فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا، قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه، فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة، ولست من أمركم في شيء (البداية والنهاية 8/233 وتاريخ الإسلام ص274).
كما أن مجرد موافقة عدد من كبار الشخصيات الإسلامية، من أمثال عبد الله بن الزبير وعبد الله ابن عباس وابن عمر وأبو أيوب الأنصاري، على مصاحبة جيش يزيد في سيره نحو القسطنطينية فيها خير دليل على أن يزيد كان يتميز بالاستقامة، وتتوفر فيه كثير من الصفات الحميدة، ويتمتع بالكفاءة والمقدرة لتأدية ما يوكل إليه من مهمات؛ وإلا لما وافق أمثال هؤلاء الأفاضل من الصحابة أن يتولى قيادتهم شخص مثل يزيد. وبالرغم من كل ما سبق أن أوردناه من روايات، فإن أحد المؤرخين المحدثين قد أعطى حكماً قاطعاً بعدم أهلية يزيد للخلافة، دون أن يناقش الآراء التي قيلت حول هذا الموضوع، أو أن يقدم أي دليل تاريخي يعضد رأيه، ويمضي ذلك المؤرخ المحدث في استنتاجاته، فيرى أن معاوية لم يبايع لولده يزيد بولاية العهد، إلاّ مدفوعاً بعاطفة الأبوة (موسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي 2/46-47).
لكننا نجد وجهة النظر التي أبداها الأستاذ محب الدين الخطيب - حول هذه المسألة - جديرة بالأخذ بها للرد على ما سبق، فهو يقول: إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر وعمر في مجموع سجاياهما، فهذا ما لم يبلغه في تاريخ الإسلام، ولا عمر بن عبد العزيز، وإن طمعنا بالمستحيل وقدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر، فلن تتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر وعمر، وإن كان مقياس الأهلية، الاستقامة في السيرة، والقيام بحرمة الشريعة، والعمل بأحكامها، والعدل في الناس، والنظر في مصالحهم، والجهاد في عدوهم، وتوسيع الآفاق لدعوتهم، والرفق بأفرادهم وجماعاتهم، فإن يزيد يوم تُمحّص أخباره، ويقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم، وأجزل الثناء عليهم (حاشية العواصم من القواصم لابن العربي ص221).
ونجد أيضاً في كلمات معاوية نفسه ما يدل على أن دافعه في اتخاذ مثل هذه الخطوة هو النفع للصالح العام وليس الخاص، فقد ورد على لسانه قوله: اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله، فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كانت إنما حملني حبّ الوالد لولده، وأنه ليس لما صنعت به أهلاً، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك (تاريخ الإسلام للذهبي ص169 - خطط الشام لمحمد كرد علي 1/137).
ويتبين من خلال دراسة هذه الفكرة – أي فكرة تولية يزيد ولاية العهد من بعد أبيه، أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كان محقاً فيما ذهب إليه، إذ أنه باختياره لابنه يزيد لولاية العهد من بعده، قد ضمن للأمة الإسلامية وحدتها، وحفظ لها استقرارها، وجنبها حدوث أية صراعات على مثل هذا المنصب. وقد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه، كل من ابن العربي (العواصم من القواصم ص228-229 وابن خلدون في المقدمة ص210-211) يقول ابن خلدون: والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا، فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك، وسكوتهم عنه، دليل على انتفاء الريب منه، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم - كلهم - أجلّ من ذلك، وعدالتهم مانعة منه.. ويقول في موضع آخر: عهد معاوية إلى يزيد، خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه، مع أن ظنهم كان به صالحاً، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظن بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهد إليه، و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشا لله لمعاوية من ذلك.
قلت: ومعاوية رضي الله أعلم الناس بخفايا يزيد ولو لم يكن عنده مرضياً لما اختاره.
و أما ما يظنه بعض الناس بأن معاوية كان أول من ابتدع الوراثة في الإسلام، فقد أخطأ الظن، فدافع معاوية في عهده لابنه يزيد بالخلافة من بعده، كان محمولاً على البيعة من الناس و ليس كونه محمولاً على الوراثة، ولو كان ما رآه هو الأخير لما احتاج إلى بيعتهم بل لاكتفى ببيعته منه وحده.
فإن قيل لو ترك الأمر شورى يختار الناس ما يرونه خليفة من بينهم، قلنا قد سبقه بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بيعته لأبي بكر يوم السقيفة، وسبقه أبو بكر أيضاً في وصيته لعمر بولاية العهد من بعده، وما فعله عمر حين حصر الخلافة في الستة. والغريب في الأمر أن أكثر من رمى معاوية وعابه في تولية يزيد وأنه ورثّه توريثاً هم الشيعة، مع أنهم يرون هذا الأمر في علي بن أبي طالب وسلالته إلى اثني عشر خليفة منهم.
أورد ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم في أفاضل الصحابة: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه فيها فقهاً، ولا أعظمها فيها شرفاً؟ قلنا: نعم، قال: وأنا أقول ذلك، ولكن والله لئن تجتمع أمة محمد أحب إلىّ من أن تفترق (ص231). يعني يزيد ليس أفقه ولا أفضل ولكن أداه لمنع الفرقة.
وهل يتصور أيضاً ما زعم الكذابون، من أن معاوية رضي الله عنه كان غير راض عن لهو يزيد وفسقه، وشربه، وأنه أكثر من نصحه فلم ينتصح، فقال – لما يئس من استجابته: إذاً عليك بالليل، استتر به عن عيون الناس، وإني منشدك أبياتاً، فتأدب بها واحفظها، فأنشده:
انصب نهاراً في طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدجى * واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الأريب
كم فاسق تحسبه ناسكاً * قد باشر الليل بأمر عجيب
غطى عليه الليل أستاره فبات في أمن و عيش خصيب
و لذة لأحمق مكشوفة * يشفي بها كل عدو غريب
كذا قال الكذابون الدهاة، ولكن فضحهم الله، فهذه الأبيات لم يقلها معاوية رضي الله عنه ولم تكن قيلت بعدُ، ولا علاقة لها بمعاوية ولا بيزيد، ولا يعرفها أهل البصرة، إلا ليحيى بن خالد البرمكي، أي الذي عاش زمن هارون الرشيد، أي بعد معاوية وابنه بنحو مائة عام (تاريخ دمشق لابن عساكر 65/403).
بعض من الأحاديث المكذوبة في حق يزيد
وقد زورت أحاديث في ذم يزيد كلها موضوعة لا يصح منها شيء فهذه بعضها، وإلا فهناك الكثير:-
منها قول الحافظ أبو يعلى: عن أبي عبيدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد. (حديث منقطع - البداية والنهاية (8/231).
وحديث آخر أورده ابن عساكر في تاريخه، بلفظ: أول من يغير سنتي رجل من بني أمية يقال له يزيد (تاريخ دمشق 18/160)، وقد حسن الشيخ الألباني سنده، وقال معلقاً عليه: ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة، وجعله وراثة، والله أعلم. الصحيحة (4/329-330). قلت: الحديث الذي حسنه الشيخ الألباني دون زيادة لفظة (يقال له يزيد)، أما قوله بأن المراد تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثياً، فإن معاوية رضي الله عنه هو أول من أخذ بهذا النظام وجعله وراثياً، إذاً فالحديث لا يتعلق بيزيد بن معاوية بعينه، والله أعلم.
ومنها أيضاً قول: لا بارك الله في يزيد الطعان اللعان، أما أنه نُعي إلي حبيبي حسين (كتاب الموضوعات لابن الجوزي - للإمام الذهبي ص159).
علاقة يزيد بآل البيت رضي الله عنهم
ولم يقع بين يزيد وبين أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعكر العلاقة والقرابة بينهما سوى خروج الحسين وبعض أهله ومقتلهم على يد أهل العراق بكربلاء ومع هذا فقد بقيت العلاقة الحسنة بين يزيد وآل البيت وكانوا أولاد عمومته ونراهم قد اجتنبوا الخروج عليه أيام الحرة ومكة بل كانت صلته بعلي بن الحسين وعبد الله بن العباس ومحمد بن الحنفية أيام الحرة جيدة. أما عبد الله بن جعفر فقد كانت صلته بمعاوية ويزيد من بعده غاية في المودة والصداقة والولاء وكان يزيد لا يرد لابن جعفر طلباً وكانت عطاياه له تتوارد فيقوم ابن جعفر بتوزيعها على أهل المدينة، وكان عبد الله بن جعفر يقول في يزيد أتلومونني على حسن الرأي في هذا (قيد الشريد في أخبار يزيد ص35).
موقف العلماء من يزيد بن معاوية
وقد سئل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي عمن يصرح بلعن يزيد بن معاوية، هل يحكم بفسقه أم لا؟ وهل كان راضياً بقتل الحسين بن علي أم لا؟ وهل يسوغ الترحم عليه أم لا؟ فلينعم بالجواب مثاباً.
فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً فهو الملعون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلم ليس بلعان، وكيف يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم وقد ورد النهي عن ذلك - لحديث عمران بن الحصين قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. جمع الفوائد (3/353)، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي صلى الله عليه وسلم - هو أثر موقوف على ابن عمر بلفظ: نظر عبد الله بن عمر رضي الله عنه يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك، وهو حديث حسن (غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام للشيخ الألباني ص197)، وقد صح إسلام يزيد بن معاوية وما صح قتله الحسين ولا أمر به ولا رضيه ولا كان حاضراً حين قتل، ولا يصح ذلك منه ولا يجوز أن يُظن ذلك به، فإن إساءة الظن بالمسلم حرام وقد قال الله تعالى (اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم) [الحجرات/12]، ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين أو رضي به، فينبغي أن يعلم أن به غاية الحمق، فإن من كان من الأكابر والوزراء، والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله ومن الذي رضي به ومن الذي كرهه لم يقدر على ذلك، وإن كان الذي قد قُتل في جواره وزمانه وهو يشاهده، فكيف لو كان في بلد بعيد، وزمن قديم قد انقضى، فكيف نعلم ذلك فيما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد، وقد تطرق التعصب في الواقعة فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب فهذا الأمر لا تُعلم حقيقته أصلاً، وإذا لم يُعرف وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به. ومع هذا فلو ثبت على مسلم أنه قتل مسلماً فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر، بل هو معصية، وإذا مات القاتل فربما مات بعد التوبة والكافر لو تاب من كفره لم تجز لعنته فكيف بمؤمن تاب عن قتل.. ولم يُعرف أن قاتل الحسين مات قبل التوبة وقد قال الله تعالى (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون) [الشورى/25] فإذن لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين بعينه لم يروه النص، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى. ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره مع جواز اللعن عليه لا يُقال له يوم القيامة: لِمَ لَمْ تلعن إبليس؟ ويقال للاعن: لم لعنت ومِنْ أين عرفت أنه مطرود ملعون، والملعون هو المبعد من الله تعالى وذلك علوم الغيب، وأما الترحم عليه فجائز، بل مستحب، بل هو داخل في قولنا: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنه كان مؤمناً والله أعلم بالصواب (قيد الشريد من أخبار يزيد ص57-59).
وقد سئل ابن الصلاح عن يزيد فقال: لم يصح عندنا أنه أمر بقتل الحسين رضي الله عنه والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك، وأما سب يزيد ولعنه فليس ذلك من شأن المؤمنين، وإن صح أنه قتله أو أمر بقتله، وقد ورد في الحديث المحفوظ: إن لعن المؤمن كقتاله - البخاري مع الفتح (10/479)، وقاتل الحسين لا يكفر بذلك، وإنما ارتكب إثماً، وإنما يكفر بالقتل قاتل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والناس في يزيد على ثلاث فرق، فرقة تحبه وتتولاه، وفرقة تسبه وتلعنه وفرقة متوسطة في ذلك، لا تتولاه ولا تلعنه وتسلك به سبيل سائر ملوك الإسلام وخلفائهم غير الراشدين في ذلك وشبهه، وهذه هي المصيبة – أي التي أصابت الحق - مذهبها هو اللائق لمن يعرف سِيَر الماضين ويعلم قواعد الشريعة الظاهرة . قيد الشريد (ص59-60) .
و سُئل شيخ الإسلام عن يزيد أيضاً فقال: افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق طرفان ووسط، فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافراً منافقاً، وإنه سعى في قتل سِبط رسول الله تشفياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاماً منه وأخذاً بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة وخاله الوليد بن عتبة وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر وغيرها، وقالوا تلك أحقاد بدرية وآثار جاهلية. وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان، فتكفير يزيد أسهل بكثير. والطرف الثاني يظنون أنه كان رجلاً صالحاً وإماماً عدل وإنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحمله بيده وبرّك عليه وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبياً.. وهذا قول غالية العدوية والأكراد ونحوهم من الضُلاّل. والقول الثالث: أنه كان ملكاً من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات ولم يولد إلا في خلافة عثمان ولم يكن كافراً ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين وفُعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صحابياً ولا من أولياء الله الصالحين وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق، فرقة لعنته وفرقة أحبته وفرقة لا تسبه ولا تحبه و هذا هو المنصوص عن الأمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين (سؤال في يزيد ص26). قلت ونعم الرأي..
وفاة يزيد بن معاوية
في أثناء حصار مكة جاءت الأخبار بوفاة يزيد بن معاوية رحمه الله والبيعة لابنه معاوية. وكان ذلك لعشر خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت وفاته بحوران وقيل حوارين من أرض الشام، قال عبد الرحمن أبي معذور: حدثني بعض أهل العلم قال: آخر ما تكلم به يزيد بن معاوية: اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبه ولم أرده (قيد الشريد ص50).
الخاتمة
يزيد رحمه الله قد شوهت سيرته تشويهاً عجيباً، فنسبوا إليه شرب الخمر والفجور وترك الصلاة وتحميله أخطاء غيره دونما دليل. فيطعنون فيه وفي دينه، فقط لأجل أن يشوهوا ويثبتوا أنه لا يستحق الخلافة، ولا شك أنه مفضول وأن الحسين وغيره من الصحابة كانوا أفضل منه بدرجات ولهم صحبة وسابقية في الإسلام، لكن الطعن في دينه أمرٌ غير ثابت، بدلالة أثر ابن الحنفية الذي ذكرته آنفاً، وهناك قول مشابه لابن عباس يثبت فيه أن يزيد براء من هذه الأقوال التي يقولونها فيه، وهو أنه لما قدم ابن عباس وافداً على معاوية رضي الله عنه، أمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيه – أي أن يأتي ابن عباس، فأتاه في منزله، فرحب به ابن عباس وحدثه، فلما خرج، قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس (البداية والنهاية 8/228-229 وتاريخ دمشق 65/403-404).
يقول الله تعالى: (يأيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) [الحجرات/6] فأبو مخنف هذا وأمثاله من الرواة الكذابين الغالين ممن ينطبق عليهم لفظ الفاسق، فلا يقبل لهم قول خاصة إذا كان فيه طعن في أحد من المسلمين. أما ما لفقوه بيزيد من أن له يداً في قتل الحسين، وأنهم فسروا كلامه لعبيد الله بن زياد بأن يمنع الحسين من دخول الكوفة وأن يأتيه به، يعني اقتله وائتني برأسه، فهذا لم يقل به أحد وإنما هو من تلبيس الشيطان على الناس وإتباعهم للهوى والتصديق بكل ما يرويه الرافضة من روايات باطلة تقدح في يزيد ومعاوية، وأن أهل العراق والأعراب هم الذين خذلوا الحسين وقتلوه رضي الله عنه كما قال بذلك العلماء. روى البخاري عن شعبة عن محمد بن أبي يعقوب سمعت عبد الرحمن بن أبي نعيم: أن رجلاً من أهل العراق سأل ابن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب؟ فقال ابن عمر: انظر إلى هذا يسأل عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا (الفتح 10/440 وصحيح سنن الترمذي 3/224).
أما قول الإمام الذهبي في سيره عن يزيد بأنه ممن لا نسبه ولا نحبه وأنه كان ناصبياً فظاً غليظاً جلفاً متناول المسكر ويفعل المنكر (سير أعلام النبلاء 4/36). قلت: إن الإنصاف العظيم الذي يتمتع به الذهبي رحمه الله جعله لا يكتفي بسرد تاريخ المترجم له دون تعليقه الشخصي؛ وذلك لإنصاف المترجم له فيما أشيع عنه، للخروج بحكم عام على المترجم له (وهذا عين العدل في تخريج تراجم الذهبي ليستفيد منه الصحوة المباركة التي توشك أن تعطي ثمارها رغم أنف الحاقدين الذين يرمون العلماء والدعاة بالفسق والابتداع والميل عن مذهب السلف لأي زلة، لا يعذرون أحداً، ولا يتقون الله في ظنٍّ مرجوح).
فعن تناوله المسكر: لا يصح كما رأي ابن الحنفية (أحرى أن يكون كارهاً لملكه للعداء القديم) - ولا يحل إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك؟ وقد شهد العدل بعدالته.
والإمام أحمد بن حنبل قد أدخل يزيد بن معاوية في جملة الزهاد بعد الصحابة قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين (في كتابه الزهد)، وهذا لا يتعارض مع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية نقلاً عن الإمام أحمد عندما سُئل أتكتب الحديث عن يزيد، قال: لا، ولا كرامة، أوَ ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل (سؤال في يزيد ص27). وكأن رفض الإمام أحمد رواية حديث رسول الله ص عنه ليس دليلاً على فسقه، وليس كل مجروح في رواية الحديث لا تقبل أقواله. فأين هذا من ذكر المؤرخين له في الخمر وأنواع الفجور، ألا يستحيون؟! وإذا سلبهم الله المروءة والحياء، ألا ترعوون أنتم وتزدجرون وتقتدون بفضلاء الأمة (العواصم من القواصم ص246).
وقد أنصف أهل العلم والعقل والسنة والجماعة على أن يزيد كان ملكاً من الملوك المسلمين له حسنات وله سيئات ولم يكن صحابياً ولم يكن كافراً.
والمؤمن الحق يعرف جيداً أن الله تعالى غير سائله عما حصل بين علي ومعاوية أو بين يزيد والحسين أو الذين جاءوا من بعدهم إنما العبد يسئل عما قدم لنفسه. وأخيراً فالعبد التقي الخفي لا ينشغل بذنوب العباد وينسى نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه و ينسى الجذع أو الجدل في عينه معترضاً (السلسلة الصحيحة 1/74).
No comments:
Post a Comment